الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: دلائل الإعجاز **
ومما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم مثل وغير في نحو قوله منا السريع: مثلك يثني المزن عن صوبه ويسترد الدمع عن غربه وقول الناس: مثلك رعى الحق والحرمة. وكقول الذي قال له الحجاج: لأحملنك على الأدهم يريد القيد فقال على سبيل المغالطة: ومثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كل من كان مثله في الحال والصفة كان من مقتضى القياس. وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر أو أن لا يفعل. ومن أجل أن المعنى كذلك قال من السريع: ولم أقل مثلك أعني به سواك يافرداً بلا مشبه وكذلك حكم غير إذا سلك هذا المسلك فقيل: غيري يفعل ذاك على معنى أني أفعله لا أفعله لا أن يومىء بغير إلى إنسان فيخبر عنه بأن يفعل كما قال من البسيط: غيري بأكثر هذا الناس ينخدع وذاك أنه معلوم أنه لم يرد أن يعرض بواحد كان هناك فيستنقضه ويصفه بأنه مضعوف يغر ويخدع بل لم يرد إلا أن يقول: إني لست ممن ينخدع ويغتر. وكذلك لم يرد أبو تمام بقوله من الوافر: وغيري يأكل المعروف سحتاً وتشحب عنده بيض الأيادي أن يعرض مثلاً بشاعر سواه فيزعم أن الذي قرف به عند الممدوح من أنه هجاه كان من ذلك الشاعر لا منه هذا محال بل ليس إلا أنه نفى عن نفسه أن يكون ممن يكفر النعمة ويلؤم. واستعمال مثل وغير على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع وهو جار في عادة كل قوم. فأنت الآن إذا تصفحت الكلام وجدت هذين الاسمين يقدمان أبداً على الفعل إذا نحي بهما هذا النحو الذي ذكرت لك وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدما. أفلا ترى أنك لو قلت: يثني المزن عن صوبه مثلك ورعى الحق والحرمة مثلك ويحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير وينخدع غيري بأكثر هذا الناس ويأكل غيري المعروف سحتاً رأيت كلاماً مقلوباً عن جهته ومغيراً عن صورته ورأيت اللفظ قد نبا عن معناه رأيت الطبع يأبى أن يرضاه وأعلم أن معك دستوراً لك فيه إن تأملت غنى عن كل ما سواه وهو أنه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه في الاستفهام معنى لا يكون له ذلك المعنى في الخبر. وذاك أن الاستفهام استخبار والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فإذا كان كذلك كان محالاً أن يفترق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره في الاستفهام فيكون المعنى إذا قلت: أزيد قام. غيره إذا قلت: أقام زيد ثم لا يكون هذا الافتراق في الخبر ويكون قولك: زيد قام وقام زيد سواء ذاك لأنه يؤدي إلى أن تستعمله أمراً لا سبيل فيه إلى جواب وأن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه. وجملة الأمر أن المعنى في إدخالك حرف الاستفهام على الجملة من الكلام هو أنك تطلب أن يقفك في معنى تلك الجملة ومؤداها على إثبات أو نفي. فإذا قلت: أزيد منطلق فأنت تطلب أن يقول لك: نعم هو منطلق. أو يقول: لا ما هو منطلق. وإذا كان ذلك كذلك كان محالاً أن لا تكون الجملة إذا دخلتها همزة الاستفهام استخباراً عن المعنى على وجه لا تكون هي إذا نزعت منها الهمزة إخباراً به على ذلك الوجه فاعرفه.
أو قدم الفعل عليها إذا قلت: أجاءك رجل فأنت تريد أن تسأله: هل كان مجيء من أحد من الرجال إليه فإن قذمت الاسم فقلت: أرجل جاءك فأنت تسأله عن جنس من جاءه أرجل هو أم امرأة. ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنه قد أتاه آت. ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي فسبيلك في ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتي فقلت: أزيد جاءك أم عمرو ولا يجوز تقديم الاسم في المسألة الأولى لأن تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل والسؤال عن الفاعل يكون إما عن عينه أو عن جنسه ولا ثالث. وإذا كان كذلك كان محالاً أن تقدم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس لأنه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلق من حيث لا يبقى بعد الجنس إلا العين. والنكرة لا تدل على عين شيء فيسأل بها عنه. فإن قلت: أرجل طويل جاءك أم قصير كان السؤال عن أن الجائي من جنس طوال الرجال أم قصارهم فإن وصفت النكرة بالجملة فقلت: أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه كان السؤال عن المعطي أكان ممن عرفه قبل أم كان إنساناً لم تتقدم منه معرفة. وإذا قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام فابن الخبر عليه. فإذا قلت: رجل جاءني لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت. فإن لم ترد ذاك كان الواجب أن تقول: جاءني رجل فتقدم الفعل. وكذلك إن قلت: رجل جاءني لم يستقم حتى يكون السامع قد ظن أنه قد أتاك قصير أو نزلته من ظن ذلك. وقولهم: شر أهر ذا ناب إنما قدم فيه شر لأن المراد أن يعلم أن الذي أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير فجرى مجرى أن تقول: رجل جاءني تريد أنه رجل لا امرأة. وقول العلماء إنه إنما يصلح لأنه بمعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر بيان لذلك. ألا ترى أنك لا تقول: ما أتاني إلا رجل إلا حيث يتوهم السامع أنه قد أتتك إمرأة. ذاك لأن الخبر بنقض النفي يكون حيث يراد أن يقصر الفعل على شيء وينفى عما عداه. فإذا قلت: ما جاءني إلا زيد كان المعنى أنك قد قصرت المجيء على زيد ونفيته كل من عداه وإنما يتصور قصر الفعل على معلوم. ومتى لم يرد بالنكرة الجنس لم يقف منها السامع على معلوم حتى يزعم أني أقصر له الفعل عليه وأخبره أنه كان منه دون غيره. وأعلم أنا لم نرد بما قلناه من أنه إنما حسن الابتداء بالنكرة في قولهم شر أهر ذا ناب لأنه أريد به الجنس أن معنى شر والشر سواء وإنما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبين أن الذي أهر ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير. كما أنا إذا قلنا في قولهم: أرجل أتاك أم امرأة أن السؤال عن الجنس لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال: الرجل أم المرأة أتاك ولكنا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي: أهو من جنس الرجال أم جنس النساء فالنكرة إذاً على أصلها من كونها لواحد من الجنس. إلا أن القصد منك لم يقع إلى كونه واحداً وإنما وقع إلى كونه من جنس الرجال. وعكس هذا أنك إذا قلت: أرجل أتاك أم رجلان كان القصد منك إلى كونه واحداً دون كونه رجلاً فاعرف ذلك أصلاً. وهو أنه قد يكون في اللفظ دليل على أمرين ثم يقع القصد إلى أحدهما دون الآخر فيصير الآخر بأن يدخل في القصد كأنه لم يدخل في دلالة اللفظ. وإذا اعتبرت ما قدمته من قول صاحب الكتاب: أنك قلت: عبد الله فنبهته له ثم بنيت عليه الفعل وجدته يطابق هذا. وذاك أن التنبيه لا يكون إلا على معلوم كما أن قصر الفعل لا يكون إلا على معلوم. فإذا بدأت بالنكرة فقلت: رجل وأنت لا تقصد بها الجنس وأن تعلم السامع أن الذي أردت بالحديث رجل لا امرأة كان محالاً أن تقول: إني قدمته لأنبه المخاطب له لأنه يخرج بك إلى أن تقول: إني أردت أن أنبه السامع لشيء لا يعلمه في جملة ولا تفصيل. وذلك ما لا يشك في استحالته فاعرفه. هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ عجيب الأمر شبيه بالسحر فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن. وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر. وأنا أكتب لك بديئاً أمثلة مما عرض فيه الحذف ثم أنبهك على صحة ما أشرت إليه وأقيم الحجة من ذلك عليه صاحب الكتاب من البسيط: اعتاد قلبك من ليلى عوائده وهاج أهواءك المكنونة الطلل ربع قواء أذاع المعصرات به وكل حيران جار ماؤه خضل قال: أراد ذاك ربع قواء أو هو ربع. قال: ومثله قول الآخر من البسيط: هل تعرف اليوم رسم الداروالطللا كما عرفت بجفن الصيقل الخللا دار لمروة إذ أهلي وأهلهم بالكانسية نرعى اللهو والغزلا كأنه قال: تلك دار. قال شيخنا رحمه الله: ولم يحمل البيت الأول على أن الربع بدل من الطلل لأن الربع أكثر من الطلل والشيء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه. فأما الشيء من أقل منه ففاسد لا يتصور. وهذه طريقة مستمرة لهم إذ ذكروا الديار والمنازل كما يضمرون في المبتدأ فيرفعون فقد يضمرون الفعل فينصبون كبيت الكتاب أيضاً من البسيط: أنشده بنصب ديار على إضمار فعل كأنه قال: أذكر ديار مية. ومن المواضع التي يطرد فيها حذف المبتدأ القطع والاستئناف يبدؤون بذكر الرجل ويقدمون بعض أمره ثم يدعون الكلام الأول ويستأنفون كلاماً آخر. وإذا فعلوا ذلك أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ مثال ذلك قوله من مجزوء الكامل: وعلمت أني يوم ذا ك منازل كعباً ونهدا قوم إذا لبسوا الحدي د تنمروا حلقاً وقدا وقوله من الوافر: هم حلوا من الشرف المعلى ومن حسب العشيرة حيث شاؤوا بناة مكارم وأساة كلم دماؤهم من الكلب الشفاء وقوله من الطويل: رآني على ما بي عميلة فاشتكى إلى ماله حالي أسر كما جهر غلام رماه الله بالخير مقبلاً له سيمياء لا تشق على البصر وقوله من الطويل: إذا ذكر آبنا العنبرية لم تضق ذراعي وألقى باسته من أفاخر حمالان: خبر ثان وليس بصفة كما يكون لو قلت مثلاً: رجلان حمالان. ومما اعتيد فيه أن يجيء خبراً قد بني على مبتدأ محذوف قولهم بعد أن يذكرو الرجل: فتى من صفته كذا وأغر من صفته كيت وكيت. كقوله من الطويل: ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ولا عرف إلا قد تولى وأدبرا فتى حنظلي ما تزال ركابه تجود بمعروف وتنكر منكرا وقوله من الطويل: سأشكر عمراً إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت ومن ذلك قول جميل من البسيط: وهل بثينة يا للناس قاضيتي ديني وفاعلة خيراً فأجزيها ترنو بعيني مهاة أقصدت بهما قلبي عشية ترميني وأرميها هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ربا العظام بلا عيب يرى فيها من الأوانس مكسال مبتلة خود غذاها بلين العيش غاذيها وقوله من الكامل: وتقول: بت عندي فديتك ليلة أشكو إليك فإن ذاك يسير غراء مبسام كأن حديثها در تحدر نظمه منثور محطوطة المتنين مضمرة الحشا ريا الروادف خلقها ممكور وقول الأقيشر في ابن عم له موسر سأله فمنعه وقال: كم أعطيك مالي وأنت تنفعه فيما لا يعنيك والله لا أعطيك. فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم فشكاه إلى القوم وذمه فوثب إليه ابن عمه فلطمه فأنشأ يقول من الطويل: سريع إلى ابن العم يلطم وجهه وليس إلى داعي الندى بسريع حريص على الدنيا مضيع لدينه وليس لما في بيته بمضيع فتأمل الآن هذه الأبيات كلها واستقرها واحداً واحداً وانظر إلى موقعها في نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف إذا أنت مررت بموضع الحذف منها ثم قلبت النفس تجد وألطفت النظر فيما تحس به. ثم تكلف أن ترد ما حذف الشاعر وأن تخرجه لفظك وتوقعه في سمعك فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت وأن رب حذف هو قلادة الجيد وقاعدة التجويد. وإن أردت ما هو أصدق في ذلك شهادة وأدل دلالة فانظر قول عبد الله بن الزبير يذكر غريماً له قد ألح عليه من الطويل: فدب دبيب البغل يألم ظهره وقال: تعلم أنني غير فاعل تثاءب حتى قلت: داسع نفسه وأخرج أنياباً له كالمعاول الأصل حتى قلت: هو داسع نفسه. أي حسبته من شدة التثاؤب ومما به من الجهد يقذف نفسه من جوفه ويخرجها من صدره كما يدسع البعير جرته. ثم إنك ترى نصبة الكلام وهيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ وتباعده عن وهمك وتجتهد أن لا يدور في خلدك ولا يعرض لخاطرك. وتراك كأنك تتوقاه توقي الشيء يكره مكانه والثقيل يخشى هجومه. ومن لطيف الحذوف قول بكر بن النطاح من السريع: العين تبدي الحب والبغضا وتظهر الإبرام والنقضا درة ما أنصفتني في الهوى ولارحمت الجسد المنضى غضبى ولا والله يا أهلها لا أطعم البارد أو ترضى يقول في جارية كان يحبها وسعي به إلى أهلها فمنعوها منه. والمقصود قوله: " وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمت التكلم من الكامل: قالت سمية: قد غوبت بأن رأت حقاً تناوب مالنا ووفودا غي لعمرك لا أزال أعوده ما دام مال عندنا موجودا المعنى: ذاك غي لا أزال أعود إليه فدعي عنك لومي. وإذ قد عرفت هذه الجملة من حال الحذف في المبتدأ فاعلم أن ذلك سبيله في كل شيء فما من اسم أو فعل تجلى قد حذف ثم أصيب به موضعه وحذف في الحال ينبغي أن يحذف فيها إلا وأنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره وترى إضماره في النفس أولى وآنس من النطق به. وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ وهو حذف اسم إذ لا يكون المبتدأ اسماً فإني اتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصاً فإن الحاجة إليه أمس وهو نحن به أخص واللطائف كأنها فيه أكثر وما يظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب وأظهر. وهاهنا أصل يجب ضبطه وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدى إليه حاله مع الفاعل. وكما أنك إذا قلت: ضرب زيد. فأسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلاً له لا أن تفيد وجود الضرب في نفسه وعلى الإطلاق. كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت: ضرب زيد عمراً. كان غرضك أن تفيد التباس الضر الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما. إنما كان من أجل أن يعلم التباس المعنى الذي اشتق منه بهما. فعمل الرفع الفاعل ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. ولم يكن ذلك ليعلم وقوع الضرب في نفسه. بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضرب ووجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول أو يتعرض لي ذلك بالعبارة فيه أن يقال: كان ضرب أو وقع ضرب أو وجد ضرب. وما شاكل ذلك ألفاظ تفيد الوجود المجرد في الشيء. وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن أغراض الناس تختلص في ذكر الأفعال المتعدية فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك كان الفعل المتعدي كغير المتعد مثلاً في أنك لا ترى مفعولاً لا لفظاً ولا تقديراً. ومثال ذلك قول الناس: فلان يحل ويعقد ويأمر وينهى ويضر وينفع. وكقولهم: هو يعطي ويجزل ويقري ويضيف. المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة من غير أن يتعرض لحديث المفعول حتى كأنك قلت: صار إليه الحل والعقد وصار بحيث يكون منه حل وعقد وأمر ونهي وضر ونفع وعلى هذا القياس. وعلى ذلك قوله تعالى: " وكذلك قوله تعالى: " وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلاً للشيء وأن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه أو لا يكون منه. فإن الفعل لا يعدى هناك لأن تعديته تنقص الغرض وتغير المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت: هو يعطي الدنانير كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه أو أنه يعطيها خصوصاً دون غيرها وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه. ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء. إلا أنه لم يثبت إعطاء الدنانير فاعرف ذلك فإنه أصل كبير عظيم النفع. فهذا قسم من خلو الفعل عن المفعول وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النص عليه. وقسم ثان وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم. إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه وينقسم إلى جلي لا صنعة فيه وخفي تدخله الصنعة. فمثال الجلي قولهم: أصغيت إليه: وهم يريدون أذني و: أغضيت عليه: والمعنى جفني. وأما الخفي الذي تدخله الصنعة فيتفنن ويتنوع. فنوع منه أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه إما لجري ذكر أو دليل حال. إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى شيء أو تعرض فيه لمفعول. ومثاله قول البحتري من الخفيف: شجو حساده وغيظ عداه أن يرى مبصر ويسمع واع المعنى: لا محالة أن يرى مبصر محاسنه وشممع واع أخباره وأوصافه. ولكنك تعلم على ذلك أنه كأنه يسرق علم ذلك من نفسه وبدفع صورته عن وهمه ليحصل له معنى شريف وغرض خاص. وذاك أنه يمدح خليفة وهو المعتز ويعرض بخليفة وهو المستعين. فأراد أن يقول: إن محاسن المعتز وفضائله والمحاسن والفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر ويعيها سمع حتى يعلم أنه المستحق للخلافة. والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينارعه مرتبتها فأنت ترى حساده وليس شيء أشجى لهم وأغيط من علمهم بأن هاهنا مبصراً يرى وسامعاً يعي حتى ليتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يعي معها كي يخفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة فيجدوا بذلك سبيلاً إلى منازعة إياها. وهذا نوع آخر منه وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه بدليل الحال أو ما سبق من الكلام إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس لغرض غير الذي مضى وذلك الغرض أن تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل وتخلص له وتنصرف بجملتها وكما هي إليه. ومثاله قول عمرو بن معدي كرب من الطويل: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت لا أجرت لما فعل متعد ومعلوم أنه لو عداه لما عداه إلا إلى ضمير المتكلم نحو " ولكن الرماح أجرتني " وأنه لا يتصور أن يكون هاهنا شي آخر يتعدى إليه لاستحالة أن يقول: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ثم يقول: ولكن الرماح أجرت غيري. إلأ أنك تجد المعنى يلزمك أن لا تنطق بهذا المفعول ولا تخرجه إلى لفظك. والسبب في ذلك أن تعديتك له توهم ما هو خلاف الغرض وذلك أن الغرض هو أن تثبت أنه كان من الرماح إجراراً وحبس الألسن عن النطق وأن تصحح وجود ذلك. ولو قال " أجرتني " جاز أن يتوهم أنه لم يعن بأن يثبت للرماح إجراراً بل الذي عناه أن يبين أنها أجرته. فقد يذكر الفعل كثيراً والغرض منه ذكر المفعول مثاله أنك تقول: أضربت زيداً وأنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب. وإنما تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد وأن يستجيز ذلك أو يستطيعه. فلما كان في تعدية أجرت ما يوهم ذلك وقف فلم يعد البتة ولم ينطق بالمفعول لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرماح وتصحيح أنه كان منها وتسلم بكليتها لذلك ومثله قول جرير من الوافر: أمنيت المنى وخلبت حتى تركت ضمير قلبي مستهاما الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية وخلابة وأن بقول لها: أهكذا تصنعين وهذه حيلتك في فتنة الناس ومن بارع ذلك ونادره ما تجلى في هذه الأبيات روى المرزباني في كتاب الشعر بإسناد قال: لما تشاغل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأهل الردة استبطأته الأنصار فقال: إما كلفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فو الله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس ولكني والله ما أوتى من مودة لكم ولا حسن رأي فيكم وكيف لا نحبكم! فوالله ما وجدت مثلاً لنا ولكم إلا ما قال طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب من الطويل: جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي لاقوه منا لملت هم خلطونا بالنفوس وألجؤوا إلى حجرات أدفأت وأظلت فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله: لملت وألجؤوا وأدفأت وأظلت لأن الأصل: لملتنا وألجؤونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلتنا. إلا أن الحال على ما ذكرت لك من أنه في حد المتناسي حتى كأن لا قصد إلى مفعول وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه كما يكون إذا قلت: قد مل فلان تريد أن تقول: قد دخله الملال. من غير أن تخص شيئاً بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته و تقول: هذا بيت يدفىء ويظل. تريد أنه بهذه الصفة. واعلم أن لك في قوله: أجرت ولملت فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل وهي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال ما يجر مثله وما القضية فيه أنه لا يتفق على قوم إلا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقاً وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى لأنك إذا قلت: ولكن الرماح أجرتني لم يكن يتأول على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجر قضية مستمرة في كل شاعر قوم بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجر شاعرهم. ونظيره أنك تقول: قد كان منك يؤلم تريد ما الشرط مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان. ولو قلت: ما يؤلمني لم يفد ذلك لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشيء لا يؤلم غيرك. وهكذا قوله: ولو أن أمنا تلاقي الذي لاقوه منا لملت يتضمن أن من حكم مثله في كل أم أن تمل وتسأم وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له الابن وتتبرم مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد. وذلك أنه وإن قال أمنا فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها. ولو قلت: لملتنا لم يحتمل ذلك لأنه يجري مجرى أن تقول: لو لقيت أمنا ذلك لدخلها ما يملها منا. وإذا قلت: ما يملها منا فقيدت لم يصلح لأن يراد به معنى العموم وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن. وكذلك قوله: إلى حجرات أدفأت وأظلت لأن فيه معنى قولك: حجرات من شأن مثلها أن تدفىء وتظل أي هي بالصفة التي إذا كان البيت عليها أدفأ وأظل. ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول إذ لا تقول: حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا وتظلنا. هذا لغو من الكلام فاعرف هذه النكتة فإنك تجدها في كثير من هذا الفن مضمومة إلى المعنى الآخر. الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل والدلالة على أن القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله لا أن تعلم التباسه بمفعوله. وإن أردت أن تزداد تبييناً لهذا الأصل أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها شوب فانظر إلى قوله تعالى: " فسقى لهما ثم تولى إلى الظل الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم وامرأتين تذودان غنمهما وقالتا: لا نسقي غنمنا فسقى لهما غنمهما. ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقاً. وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي ومن المرأتين ذود وأنهما قالتا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي. فأما ما كان المسقي غنماً أم إبلاً أم غير ذلك فخارج عن الغرض وموهم خلافه. وذاك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما جاز أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود كما أنك إذا قلت: ما لك تمنع أخاك كنت منكراً المنع لا من حيث هو منع بل من حيث هو منع أخ فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت إلا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة وأن الغرض لا يصح إلا على تركه. ومما هو كأنه نوع آخر غير ما مضى قول البحتري من الطويل: إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي قد علم أن المعنى: إذا بعدت عني أبلتني وإن قربت مني شفتني إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك ويوجب اطراحه. وذاك لأنه أراد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه وكأنه كالطبيعة فيه. وكذلك حال الشفاء مع القرب حتى كأنه قال: أتدري ما بعادها هو الداء المضني وما قربها هو الشفاء والبرء من كل داء. ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة إلا بحذف المفعول البتة فاعرفه. وليس لنتائج هذا الحذف أعني حذف المفعول نهاية فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة وإلى لطائف لا تحصى. وهذا نوع منه آخر: اعلم أن هاهنا باباً من الإضمار والحذف يسمى الإضمار على على شريطة التفسير. ذلك مثل قولهم: أكرمني وأكرمت عبد الله. أردت: أكرمنى عبد الله وأكرمت عبد الله. ثم تركت ذكره في الأول استغناء بذكره في الثاني. فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر وشيء لا يعبأ به ويظن أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة منه وفيه إذا أنت طلبت الشيء من معدنه من دقيق الصنعة ومن جليل الفائدة ما لا تجده إلا في كلام الفحول. فمن لطيف ذلك ونادره قول البحتري من الكامل: لو شئت لم تفسد سماحة حاتم كرماً ولم تهدم مآثرخالد الأصل: لا محالة لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها. ثم حذف ذلك من الأول استغناء بدلالته في الثاني عليه. ثم هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلا اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها صرت إلى كلام غث وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس. وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له أبداً لطفاً ونبلاً لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك وأنت إذا قلت: لو شئت علم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء فهو يضع في نفسه أن هنا شيئاً تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون. فإذا قلت: لم تفسد سماحة حاتم عرف ذلك الشيء. ومجيء المشيئة بعد لو وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معداة إلى شيء كثير شائع كقوله تعالى: " والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت فالأصل: لو شاء الله يجمعهم على الهدى لجمعهم و: لو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم. إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفاً. وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول شاعر من الطويل: ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع فقياس هذا لو كان على حد: ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أن يقول: لو شئت بكيت دماً ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنها أحسن في هذا الكلام خصوصاً. وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دماً. فلما كان ذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع ويؤنسه به. وإذا استقريت وجدت الأمر كذلك أبداً متى كان مفعول المشيئة أمراً عظيماً أو بديعاً غريباً كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر. يقول الرجل يخبر عن عزة نفسه: لو شئت أن أرد على الأمير رددت ولو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيت. فإذا لم يكن مما يكبره السامع فالحذف كقولك: لو شئت خرجت ولو شئت قمت ولو شئت أنصفت ولو شئت لقلت. وفي التنزيل: " ونظائر ذلك من الآي ترى الحذف فيها المستمر. ومما يعلم أن ليس فيه لغير الحذف وجه قول طرفة من الطويل: وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت مخافة ملوي من القد محصد وقول حميد من الطويل: إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة أو الزرق من تثليث أو بيلملما مطوقة ورقاء تسجع كلما دنا الصيف وانجاب الربيع فأنجما إذا شاء غادى صرمة أو غدا على عقائل سرب أو تقنص ربربا وقوله من الكامل: لو شئت عدت بلاد نجد عودة فحللت بين عقيقه وزروده معلوم أنك لو قلت: وإن شئت أن لا ترقل لم ترقل: أو قلت: إذا شئت أن تغنيني بأجزاع بيشة غنتني وإذا شاء أن يغادي صرمة غادى ولو شئت أن تعود بلاد نجد عودة عدتها أذهبت الماء والرونق وخرجت إلى كلام غث ولفظ رث. وأما قول الجوهري من الطويل: فلم يبق مني الشوق غير تفكري فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا فقد نحا به نحو قوله: ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته فأظهر مفعول شئت ولم يقل: فلو شئت بكيت تفكراً لأجل أن له غرضاً لا يتم إلا بذكر المفعول وذلك أنه لم يرد أن يقول: ولو شئت أن أبكي تفكراً بكيت كذلك. ولكنه أراد أن يقول: قد أفناني النحول فلم يبق مني وفي غير خواطر تجول حتى لو شئت بكاء فمريت شؤوني وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده ولخرج بدل الدمع التفكر. فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق مبهم غير معدى إلى التفكر البتة والبكاء الثاني مقيد معدى إلى التفكر. وإذا كان الأمر كذلك صار الثاني كأنه شيء غير الأول وجرى مجرى أن تقول: لو شئت أن تعطي لما أعطيت درهمين. في أن الثاني لا واعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح: أكرمت وأكرمني عبد الله ولكنه شبيه به في أنه إنما حذف الذي حذف من مفعول المشيئة والإرادة لأن الذي يأتي في جواب لو وأخواتها يدل عليه. وإذا أردت ما هو صريح في ذلك ثم هو نادر لطيف ينطوي على معنى دقيق وفائدة جليلة فانظر إلى بيت البحتري من الخفيف: قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ دد والمجد والمكارم مثلا المعنى: قد طلبنا لك مثلاً ثم حذف لأن ذكره في الثاني يدل عليه. ثم إن للمجيء به كذلك من الحسن والمزية والروعة ما لا يخفى. ولو أنه قال: طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلاً فلم نجده لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئاً. وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة هو نفي الوجود عن المثل. فأما الطلب فكالشيء يذكر ليبنى عليه الغرض ويؤكد به أمره. وإذا كان هذا كذلك فلو أنه قال: قد طلبنا لك السؤدد والمجد والمكارم مثلاً فلم نجده لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل وأوقعه على ضميره. ولن تبلغ الكناية مبلغ الصريح أبداً. ويبين هذا كلام ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وأنا أكتب لك الفصل حتى يستبين الذي هو المراد قال: والسنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصر المجيب. ألا ترى أن قيس بن خارجة لما ضرب بسيفه مؤخرة راحلة الحاملين في شأن حمالة داحس وقال: ما لي فيها أيها العشمتان قالا: بل ما عندك قال عندي قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب. آمر فيها. بالتواصل وأنهى فيها عن التقاطع. قالوا: فخطب يوماً إلى النيل فما أعاد كلمة ولا معنى. فقيل لأبي يعقوب: هلا اكتفى بالأمر بالتواصل عن النهي عن التقاطع أوليس الأمر بالصلة هو النهي عن القطيعة قال: أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإيضاح والتكشيف. انتهى الفصل الذي أردت أن أكتبه فقد بصرك هذا أن لن يكون إيقاع نفي الوجود على صريح لفظ المثل كإيقاعه على ضميره. وإذ قد عرفت هذا فإن هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي الرمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري فيعمل الأول من الفعلين وذلك قوله من الوافر: ولم أمدح لأرضيه بشعري لئيماً أن يكون أصاب مالا أعمل لم أمدح الذي هو الأول في صريح لفظ اللئيم وأرضى الذي هو الثاني في ضميره. وذلك لأن إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحاً والمجيء به مكشوفاً ظاهراً هو الواجب من حيث كان أصل الغرض. وكان الإرضاء تعليلاً له. ولو أنه قال: ولم أمدح لأرضي بشعري لئيماً لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل وأبانه فيما ليس بالأصل فاعرفه. ولهذا الذي ذكرنا من أن للتصريح عملاً لا يكون مثل ذلك العمل للكناية كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى: " الله الصمد وكان لو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار فقيل: وبالحق أنزلناه وبه نزل. وقل هو الله أحد هو الصمد لعدمت الذي أنت واجده الآن ".
قد بان الآن واتضح لمن نظر نظر المتثبت الحصيف الراغب في اقتداح زناد العقل والازدياد من الفضل ومن شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها ويتغلغل إلى دقائقها ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلد الذي يجري مع الظاهر. ولا يعدو الذي يقع في أول الخاطر أن الذي قلت في شأن الحذف وفي تفخيم أمره والتنويه بذكره وأن مأخذه مأخذ يشبه السحر ويبهر الفكر كالذي قلت: وهذا فن آخر من معانيه عجيب وأنا ذاكره لك: قال البحتري في قصيدته التي أولها من الطوي: وهو يذكر محاماة الممدوح عليه وصيانته له ودفعه نوائب الزمان عنه: وكم ذدت عني من تحامل حادث وسورة أيام حززن إلى العظم الأصل لا محالة: حززن اللحم إلى العظم إلا أن في مجيئه به محذوفاً وإسقاطه له من النطق وتركه في الضمير مزية عجيبة وفائدة جليلة. وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعاً يمنعه به من أن يتوهم في بدء الأمر شيئاً غير المراد ثم ينصرف إلى المراد. ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله: إلى العظم أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم. فلما كان كذلك ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ ليبرىء السامع من هذا الوهم ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف الفهم ويتصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم. أفيكون دليل أوضح من هذا وأبين وأجلى في صحة ما ذكرت لك من أنك قد ترى ترك الذكر أفصح من الذكر والامتناع من أن يبرز اللفظ من الضمير أحسن للتصوير
أول ما ينبغي أن يعلم منه أنه ينقسم إلى خبر هو جزء من الجملة لا تتم الفائدة دونه وخبر ليس بجزء من الجملة ولكنه زيادة في خبر آخر سابق له. فالأول خبر المبتدأ كمنطلق في قولك: زيد منطلق. والفعل كقولك: خرج زيد. فكل واحد من هذين جزء من الجملة وهو الأصل في الفائدة. والثانى هو الحال كقولك: جاءني زيد راكباً. وذاك لأن الحال خبر في الحقيقة من حيث إنك تثبت بها المعنى لذي الحال كما تثبت بخبر المبتدأ للمبتدأ وبالفعل للفاعل. ألا تراك قد أثبت الركوب في قولك: جاءني زيد راكباً لزيد إلا أن الفرق أنك جئت به لتزيد معنى في إخبارك عنه بالمجيء وهو أن تجعله بهذه الهيئة في مجيئه ولم تجرد إثباتك للركوب ولم تباشره به بل ابتدأت فأثبت المجيء ثم وصلت به الركوب فالتبس به الإثبات على سبيل التبع للمجيء وبشرط أن يكون في صلته. وأما في الخبر المطلق نحو: زيد منطلق وخرج عمرو فإنك مثبت للمعنى إثباتاً جردته له وجعلته يباشره من غير واسطة ومن غير أن تتسبب بغيره إليه فاعرفه. وإذ قد عرفت هذا الفرق فالذي يليه من فروق الخبر هو الفرق بين الإثبات إذا كان بالاسم وبينه إذا كان بالفعل وهو فرق لطيف تمس الحاجة في علم البلاغة إليه. وبيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء. وأما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد شيء. فإذا قلت: زيد منطلق. فقد أثبت الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئاً فشيئاً. بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: زيد طويل وعمرو قصير. فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث بل توجبهما وتثبتهما فقط وتقضي بوجودهما على الإطلاق كذلك لا تتعرض في قولك: زيد منطلق. لأكثر من إثباته لزيد. وأما الفعل فإنه يقصد فيه إلى ذلك فإذا قلت: زيد ها هو ذا ينطلق. فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً وجعلته يزاوله ويزجيه. وإن شئت أن تحس الفرق بينهما من حيث يلطف فتأمل هذا البيت من البسيط: لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا لكن يمر عليها وهو منطلق هذا هو الحسن اللائق بالمعنى. ولو قلته بالفعل: لكن يمر عليها وهو ينطلق لم يحسن. وإذا أردت أن تعتبره بحيث لا يخفى أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه فانظر إلى قوله تعالى: " وليس ذلك إلا لأن الفعل يقتضي مزاولة وتجدد الصفة في الوقت. ويقتضي الاسم ثبوت الصفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ومعنى يحدث شيئاً فشيئاً. ولا فرق بين: " فالغرض إذاً تأدية هيئة الكلب. ومتى اعتبرت الحال في الصفات المشبهة وجدت الفرق ظاهراً بيناً ولم يعترضك الشك في أن أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه. فإذا قلت: زيد طويل وعمرو قصير لم يصلح مكانه: يطول ويقصر وإنما تقول: يطول ويقصر إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبي ونحو ذلك مما يتجدد فيه الطول أو يحدث فيه القصر. فأما وأنت تحدث عن هيئة ثابتة وعن شيء قد استقر طوله ولم يكن ثم تزايد وتجدد فلا يصلح فيه إلا الاسم. وإذا ثبت الفرق بين الشيئين في مواضع كثيرة وظهر الأمر بأن ترى أحدهما لا يصلح في موضع صاحبه وجب أن تقضي بثبوت الفرق حيث ترى أحدهما قد صلح في مكان الآخر وتعلم أن المعنى مع أحدهما غيره مع الآخر كما هو العبرة في حمل الخفي على الجلي. وينعكس لك هذا الحكم أعني أنك كما وجدت الاسم يقع حيث لا يصلح الفعل مكانه كذلك تجد الفعل يقع ثم لا يصلح الاسم مكانه ولا يؤدي ما كان يؤديه. فمن البين في ذلك قول الأعشى من الطويل: تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق معلوم أنه لو قيل: إلى ضوء نار محرقة لنبا عنه الطبع وأنكرته النفس. ثم لا يكون ذاك النبو وذاك الإنكار من أجل القافية وأنها تفسد به من جهة أنه لا يشبه الغرض ولا يليق بالحال. وكذلك قوله من الكامل: أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلي عريفهم يتوسم وذاك لأن المعنى في بيت الأعشى على أن هناك موقداً يتجدد منه الإلهاب والإشعال حالاً فحالاً. وإذا قيل: محرقة كان المعنى أن هناك ناراً قد ثبتت لها وفيها هذه الصفة. وجرى مجرى أن يقال: إلى ضوء نار عظيمة في أنه لا يفيد فعلاً يفعل. وكذلك الحال في قوله: بعثوا إلي عريفهم يتوسم. وذلك لأن المعنى: على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك حالاً فحالاً وتصفح منه للوجوه واحداً بعد واحد. ولو قيل: بعثوا إلي عريفهم متوسماً لم يفد ذلك حق الإفادة. ومن ذلك قوله تعالى: " ولا ينبغي أن يغرك أنا إذ تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم كما نقول في: زيد يقوم إنه في موضع زيد قائم فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيها استواء لا يكون من بعده افتراق فإنهما لو استويا هذا الاستواء لم يكن أحدهما فعلاً والآخر اسماً بل كان ينبغي أن يكونا جميعاً فعلين أو يكونا اسمين. ومن فروق الإثبات أنك تقول: زيد منطلق و زيد المنطلق والمنطلق زيد. فيكون لك في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص وفائدة لا تكون في الباقي. وأنا أفسر لك ذلك. اعلم أنك إذا قلت: زيد منطلق كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقاً كان لا من زيد ولا من عمرو. فأنت تفيده ذلك ابتداء. وإذا قلت: زيد المنطلق كان كلامك مع من عرف أن انطلاقاً كان إما من زيد وإما من عمرو فأنت تعلمه أنه كان من زيد ودون غيره. والنكتة: أنك تثبت في الأول الذي هو قولك: زيد منطلق فعلاً لم يعلم السامع من أصله أنه كان. وتثبت في الثاني الذي هو زيد المنطلق فعلاً قد علم السامع أنه كان ولكنه لم يعلمه لزيد فأفدته ذلك. فقد وافق الأول في المعنى الذي له كان الخبر خبراً وهو إثبات المعنى للشيء. وليس يقدح في ذلك أنك كنت قد علمت أن انطلاقاً كان من أحد الرجلين لأنك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو كان حالك في الحاجة إلى من يثبته لزيد كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله. وتمام التحقيق أن هذا كلام يكون معك إذا كنت قد بلغت أنه كان من إنسان انطلاق من موضع كذا في وقت كذا لغرض كذا فجوزت أن يكون ذلك كان من زيد. فإذا قيل زيد المنطلق صار الذي كان معلوماً على جهة الجواز معلوماً على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمى فصلاً بين الجزءين فقالوا: زيد لمنطلق. ومن الفرق بين المسألتين وهو ما تمس الحاجة إلى معرفته أنك إذا نكرت الخبر أن تأتي بمبتدأ ثان على أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول. وإذا عرفت لم يجز ذلك. تفسير هذا أنك تقول: زيد منطلق وعمرو. تريد: وعمرو منطلق أيضاً. ولا تقول: زيد المنطلق وعمرو. ذلك لأن المعنى مع التعريف على أنك أردت أن تثبت انطلاقاً مخصوصاً قد كان من واحد فإذا أثبته لزيد لم يصح إثباته لعمرو. ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاق من اثنين فإنه ينبغي أن يجمع بينهما في الخبر فتقول: زيد وعمرو هما المنطلقان لا أن تفرق فتثبته أولاً لزيد ثم تجيء فتثبته لعمرو. ومن الواضح في تمثيل هذا النحو قولنا: هو القائل بيت كذا كقولك: جرير هو القائل من الطويل: وليس لسيفي في العظام بقية فأنت لو حاولت أن تشرك في هذا الخبر غيره فتقول: جرير هو القائل هذا البيت وفلان حاولت محالاً لأنه قوله بعينه. فلا يتصور أن يشرك جريراً فيه غيره. أحدهما: أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة وذلك قولك: زيد هو الجواد وعمرو هو الشجاع تريد أنه الكامل. إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود والشجاعة لم توجد إلا فيه وذلك لأنك لم تعتد بما كان من غيره لقصوره عن أن يبلغ الكمال. فهذا كالأول في امتناع العطف عليه للإشراك. فلو قلت: زيد هو الجواد وعمرو كان خلفاً من القول. والوجه الثاني: أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده في غير المخبر عنه بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه. ولا يكون ذلك إلا إذا قيدت المعنى بشيء يخصصه ويجعله في حكم نوع برأسه وذلك كنحو أن يقيد بالحال والوقت كقولك: هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيراً. وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدى ثم اشترطت له مفعولاً مخصوصاً كقول الأعشى من المتقارب: هو الواهب المئة المصطفا ة إما مخاضاً وإما عشارا فأنت تجعل الوفاء في الوقت الذي لا يفي فيه أحد نوعاً خاصاً من الوفاء. وكذلك تجعل هبة المئة من الإبل نوعاً خاصاً من الوفاء وكذا الباقي. ثم إنك تجعل كل هذا خبراً على معنى الاختصاص وأنه للمذكور دون من عداه ألا ترى أن المعنى في بيت الأعشى أنه لا يهب هذه هو الواهب المئة المصطفاة بمنزلتها في نحو: ريد هو المنطلق من حيث كان القصد إلى هبة مخصوصة كما كان القصد إلى انطلاق مخصوص وليس الأمر كذلك لأن القصد هاهنا إلى جنس من الهبة مخصوص لا إلى هبة مخصوصة بعينها. يدلك على ذلك أن المعنى على أنه يتكرر منه وعلى أنه يجعله يهب المئة مرة بعد أخرى. وأما المعنى في قولك: زيد هو المنطلق فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة واحدة لا إلى جنس من الانطلاق. فالتكرر هناك غير متصور كيف وأنت تقول: جرير هو القائل وليس لسيفي في العظام بقية تريد أن تثبت له قيل هذا البيت وتأليفه. فافصل بين أن تقصد إلى نوع فعل وبين أن تقصد إلى فعل واحد متعين حاله في المعاني حال زيد في الرجال في أنه ذات بعينها. والوجه الثالث أن لا تقصد قصر المعنى في جنسه على المذكور لا كما كان في: زيد هو الشجاع تريد أن لا تعتد بشجاعة غيره ولا كما ترى في قوله: هو الواهب المئة المصطفاة لكن على وجه ثالث وهو الذي عليه قول الخنساء من الوافر: إذا قبح البكاء على قتيل رأيت بكاءك الحسن الجميلا لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل ولم تقيد الحسن بشيء فيتصور أن يقصر على البكاء كما قصر الأعشى هبة المئة على الممدوح. ولكنها أرادت أن تقره في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد ولا يشك فيه شاك. ومثله قول حسان من الطويل: وإن سنام المجد من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد أراد أن يثبت العبودية ثم يجعله ظاهر الأمر فيها ومعروفاً بها. ولو قال: ووالدك عبد لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة. وعلى ذلك قول الآخر من الطويل: أسود إذا ما أبدت الحرب نابها وفي سائر الدهر الغيوث المواطر واعلم أن للخبر المعرف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت لك وله مسلك ثم دقيق ولمحة كالخلس يكون المتأمل عنده كما يقال يعرف وينكر وذلك قولك: هو البطل المحامي وهو المتقى المرتجى. وأنت لا تقصد شيئاً مما تقدم فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان ولم يعلم ممن كان كما مضى في قولك: زيد هو المنطلق. ولا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال كما كان في قولك: لكنك تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامي وهل حصلت معنى هذه الصفة وكيف ينبغى أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه فإن كنت قتلته علماً وتصورته حق تصوره فعليك صاحبك واشدد به يدك فهو ضالتك وعنده بغيتك وطريقه طريق قولك: هل سمعت بالأسد وهل تعرف ما هو فإن كنت تعرفه فزيد هو بعينه. ويزداد هذا المعنى ظهوراً بأن تكون الصفة التي تريد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف كقول ابن الرومي من الطوبل: هو الرجل المشروك في جل ماله ولكنه بالمجد والحمد مفرد تقديره كأنه يقول للسامع: فكر في رجل لا يتميز عفاته وجيرانه ومعارفه عنه في ماله وأخذ ما شاؤوا منه. فإذا حصلت صورته في نفسك فاعلم أنه ذلك الرجل. وهذا فن عجيب الشأن وله مكان من الفخامة والنبل وهو من سحر البيان الذي تقصر العبارة عر تأدية حقه والمعول فيه على مراجعة النفس واستقصاء التأمل. فإذا علمت أنه لا يريد بقوله: الرجل المشروك في جل ماله أن يقول: هو الذي بلغك حديثه وعرفت من حاله وقصته أنه يشرك في جل ماله على حد قولك: هو الرجل الذي بلغك أنه أنفق كذا والذي وهب المئة المصطفاة من الإبل. ولا أن يقول إنه على معنى: هو الكامل في هذه الصفة حتى كأن هاهنا أقواماً يشركون في جل أموالهم إلا أنه في ذلك أكمل وأتم لأن ذلك لا يتصور. وذاك أن كون الرجل بحيث يشرك في جل ماله ليس بمعنى يقع فيه تفاضل. كما أن بذل الرجل كل ما يملك كذلك ولو قيل: الذي يشرك في ماله جاز أن يتفاوت. وإذا كان كذلك علمت أنه معنى ثالث وليس إلا ما أشرت إليه من أنه يقول للمخاطب: ضع في نفسك معنى قولك رجل مشروك في جل ماله. ثم تأمل فلاناً فإنك تستملي هذه الصورة منه وتجده يؤديها لك نصاً ويأتيك بها كملاً. وإن أردت أن تسمع في هذا المعنى ما تسكن النفس إليه سكون الصادي إلى برد الماء فاسمع قوله من الطويل: أنا الرجل المدعو عاشق فقره إذا لم تكارمني صروف زماني وإن أردت أعجب من ذلك فقوله من الكامل: أهدى إلي أبو الحسين يدا أرجو الثواب بها لديه غدا وكذاك عادات الكريم إذا أولى يداً حسبت عليه يدا إن كان يحسد نفسه أحد فلأزعمنك ذلك الأحدا فهذا كله على معنى الوهم والتقدير وأن يصور في خاطره شيئاً لم يره ولم يعلمه ثم يجريه مجرى ما عهد وعلم. وليس شيء أغلب على هذا الضرب الموهوم من الذي فإنه يجيء كثيراً على أنك تقدر شيئاً في وهمك ثم تعبر عنه بالذي. ومثال ذلك قوله من الطويل: أخوك الذي إن تدعه لملمة يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب وقول الآخر من الطويل: فهذا ونحوه على أنك قدرت إنساناً هذه صفته وهذا شأنه وأحلت السامع على ما يعن في الوهم دون أن يكون قد عرف رجلاً بهذه الصفة فأعلمته أن المستحق لاسم الأخوة هو ذلك الذي عرفه حتى كأنك قلت: أخوك زيد الذي عرفت أنك إن تدعه لملمة يجبك. ولكون هذا الجنس معهوداً من طريق الوهم والتخيل جرى على ما يوصف بالاستحالة كقولك للرجل وقد تمنى: هذا هو الذي لا يكون وهذا ما لا يدخل في الوجود. وقوله من الكامل: ما لا يكون فلا يكون بحيلة أبداً وما هو كائن سيكون ومن لطيف هذا الباب قوله من الطويل: وإني لمشتاق إلى ظل صاحب يرق ويصفو إن كدرت عليه قد قدر كما ترى ما لم يعلمه موجوداً ولذلك قال المأمون: خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب. فهذا التعريف الذي تراه في الصاحب لا يعرض فيه شك أنه موهوم. وأما قولنا: المنطلق زيد والفرق بينه وبين: زيد المنطلق فالقول في ذلك وإن كنت ترى في الظاهر أنهما سواء من حيث كان الغرض في الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد فليس الأمر كذلك بل بين الكلامين فصل ظاهر. وبيانه أنك إذا قلت زيد المنطلق. فأنت في حديث انطلاق قد كان وعرف السامع كونه. إلا أنه لم يعد زيد كان أم من عمرو فإذا قلت: زيد المنطلق أزلت عنك الشك وجعلته يقطع بأنه من زيد بعد أن كان يرى ذلك على سبيل الجواز. وليس كذلك إذا قدمت المنطلق فقلت المنطلق زيد بل يكون المعنى حينئذ على أنك رأيت إنساناً ينطلق بالبعد منك فلم تثبته ولم تعلم أزيد هو أم عمرو. فقال لك صاحبك: المنطلق زيد أي هذا الشخص الذي من بعد هو زيد. وقد ترى الرجل قائماً بين يديك وعليه ثوب ديباج والرجل ممن عرفته قديماً ثم بعد عهدك به فتناسيته فيقال لك: اللابس الديباج صاحبك الذي كان يكون عندك في وقت كذا أما تعرفه لشد ما نسيت! ولا يكون الغرض أن يثبت له لبس الديباج لاستحالة ذلك من حيث إن رؤيتك الديباج عليه تغنيك عن إخبار مخبر وإثبات مثبت له. فمتى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدىء به فجعل مبتدأ وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبراً فاعلم أن الغرض هناك غير الغرض إذا كان اسم الفاعل الصفة خبراً كقولك: زيد المنطلق. واعلم أنه ربما اشتبهت الصورة في بعض المسائل من هذا الباب حتى يظن المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبراً لم يختلف المعنى فيهما بتقديم وتأخير. ومما يوهم ذلك قول النحويين في باب كان: إذا اجتمع معرفتان كنت بالخيار في جعل أيهما شئت اسماً الآخر خبراً كقولك: كان زيد أخاك وكان أخوك زيداً. فيظن من هاهنا أن تكافؤ الاسمين في التعريف يقتضي أن لا يختلف المعنى بأن تبدأ بهذا وتثني بذاك. وحتى كان الترتيب لذي يدعى بين المبتدأ والخبر وما يوضع لهما في المنزلة في التقدم والتأخر يسقط ويرتفع إذا كان الجزآن معاً معرفتين. ومما يوهم ذلك أنك تقول: الأمير زيد وجئتك والخليفة عبد الملك فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيد والخلافة لعبد الملك كما يكون إذا قلت: زيد الأمير وعبد الملك الخليفة. وتقوله لمن لا يشاهد ومن هو غائب عن حضرة الإمارة ومعدن الخلافة. وهكذا يتوهم في نحو قوله من الطويل: أبوك حباب سارق الضيف برد ه وجدي يا حجاج فارس شمرا وأنه لا فصل بينه وبين أن يقال: حباب أبوك وفارس شمر جدي. وهو موضع غامض. والذي يبين وجه الصواب ويدل على وجوب الفرق بين المسألتين أنك إذا تأملت لكلام وجدت ما لا يحتمل التسوية وما تجد الفرق قائماً فيه قياماً لا سبيل إلى دفعه هو الأعم الأكثر. وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى ما قدمت لك من قولك: اللابس الديباج زيد وأنت تشير له إلى رجل بين يديه. ثم انظر إلى قول العرب: ليس الطيب إلا المسك وقول جرير من الوافر: ألستم خير من ركب المطايا ونحو قول المتنبي من الوافر: وأشباه ذلك مما لا يحصى ولا يعد. وأراد المعنى على أن يسلم لك مع قلب طرفي الجملة وقل: ليس المسك إلا الطيب. و: أليس خير من ركب المطايا إياكم و: أليس ابن الألى سعدوا وسادوا إياك تعلم أن الأمر على ما عرفتك من وجوب اختلاف المعنى بحسب التقديم والتأخير. وهاهنا نكتة يجب القطع معها بوجوب هذا الفرق أبداً وهي أن المبتدأ لم يكن مبتدأ لأنه منطوق به أولاً ولا كان الخبر خبراً لأنه مذكور بعد المبتدأ بل كان المبتدأ مبتدأ لأنه مسند إليه ومثبث له المعنى والخبر خبراً لأنه مسند ومثبت به المعنى. تفسير ذلك أنك إذا قلت: زيد منطلق فقد أثبت الانطلاق لزيد وأسندته إليه. فزيد مثبت له ومنطلق مثبت به. وأما تقدم المبتدأ على الخبر لفظاً فحكم واجب من هذه الجهة أي من جهة أن كان المبتدا هو الذي يثبت له المعنى ويسند إليه والخبر هو الذي يثبت المعنى ويسند. ولو كان المبتدأ مبتدأ لأنه في اللفظ مقدم مبدوء به لكان ينبغي أن يخرج كونه مبتدأ بأن يقال: منطلق زيد. ولوجب أن يكون قولهم: إن الخبر مقدم في اللفظ والنية التأخير محالاً. وإذا كان هذا كذلك ثم جئت بمعرفتين فجعلتهما مبتدأ وخبراً فقد وجب وجوباً أن تكون مثبتاً بالثاني معنى للأول. فإذا قلت: زيد أخوك كنت قد أثبت ب أخوك معنى لزيد. وإذا قدمت وأخرت فقلت: أخوك زيد وجب أن تكون مثبتاً بزيد معنى ل أخوك وإلا كان تسميتك له الآن مبتدأ وإذ ذاك خبراً تغييراً للاسم عليه من غير معنى ولأدى إلى أن لا يكون لقولهم: المبتدأ والخبر فائدة غير أن يتقدم اسم في اللفظ على اسم من غير أن ينفرد كل واحد منهما بحكم لا يكون لصاحبه وذلك مما لا يشك في سقوطه. ومما يدل دلالة واضحة على اختلاف المعنى إذا جئت بمعرفتين ثم جعلت هذا مبتدأ وذاك خبراً تارة وتارة بالعكس قولهم: الحبيب أنت وأنت الحبيب وذاك أن معنى الحبيب أنت أنه لا فصل بينك وبين من تحبه إذا صدقت المحبة وأن مثل المتحابين مثل نفس يقتسمها شخصان كما جاء عن بعض الحكماء أنه قال: الحبيب أنت إلا أنه غيرك فهذا كما ترى فرق لطيف ونكتة شريفة. ولو حاولت أن تفيدها بقولك: أنت الحبيب حاولت ما لا يصح. لأن الذي يعقل من قولك: أنت الحبيب هو ما عناه المتنبي في قوله من البسيط: أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون محباً غير محبوب ولا يخفى بعد ما بين الغرضين فالمعنى في قولك: أنت الحبيب أنك أنت الذي أختصه بالمحبة من بين الناس. وإذا كان كذلك عرفت أن الفرق واجب أبداً وأنه لا يجوز أن يكون أخوك زيد وزيد أخوك بمعنى واحد. وهاهنا شيء يجب النظر فيه وهو أن قولك: أنت الحبيب كقولنا: أنت الشجاع تريد أنه الذي كملت فيه الشجاعة. أو كقولنا: زيد المنطلق تريد أنه الذي كان منه الانطلاق الذي سمع المخاطب به. وإذا نظرنا وجدناه لا يحتمل أن يكون كقولنا: أنت شجاع لأنه يقتضي أن يكون المعنى أنه لا محبة في الدنيا إلا ما هو به حبيب. كما أن معنى في هو الشجاع أنه لا شجاعة في الدنيا إلا ما تجده عنده وما هو شجاع به وذلك حال. وأمر آخر وهو أن الحبيب فعيل بمعنى مفعول. فالمحبة إذاً ليست هي له بالحقيقة وإنما هي صفة لغيره قد لابسته وتعلقت به تعلق الفعل بالمفعول. والصفة إذا وصفت بالكمال وصفت به على أن يرجع ذلك الكمال إلى من هي صفة له دون من تلابسة ملابسة المفعول. وإذا كان كذلك بعد أن تقول: أنت المحبوب على معنى أنت الكامل في كونك محبوباً. كما أن بعيداً أن يقال هو المضروب على معنى أنه الكامل في كونه مضروباً. وإن جاء شيء من ذلك جاء على تعسف فيه وتأويل لا يتصور هاهنا وذلك أن يقال مثلاً: زيد هو المظلوم على معنى أنه لم يصب أحداً ظلم يبلغ في الشدة والشناعة الظلم الذي لحقه فصار كل ظلم سواه عدلاً في جنبه. ولا يجيء هذا التأويل في قولنا أنت الحبيب لأنا نعلم أنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا: إن أحداً لم يحب أحداً محبتي لك. وإن ذلك قد أبطل المحبات كلها حتى صرت الذي لا يعقل للمحبة معنى إلا فيه. وإنما الذي يريدون أن المحبة مني بجملتها مقصورة عليك وأنه ليس لأحد غيرك حظ في محبة مني. وإذا كان كذلك بان أنه لا يكون بمنزلة أنت الشجاع. تريد الذي تكامل الوصف فيه. إلا أنه ينبغي من بعد أن تعلم أن بين أنت الحبيب وبين زيد المنطلق فرقاً وهو أن لك في المحبة التي أثبتها طرفاً من الجنسية من حيث كان المعنى أن المحبة مني بجملتها مقصورة عليك ولم تعمد إلى محبة واحدة من محباتك. ألا ترى أنك قد أعطيت بقولك: أنت الحبيب أنك لا تحب غيره وأن لا محبة لأحد سواه عندك. ولا يتصور هذا في زيد المنطلق لأنه لا وجه هناك للجنسية إذ ليس ثم إلا انطلاق واحد قد عرف المخاطب أنه كان واحتاج أن يعين له الذي كان منه وينص له عليه. فإن قلت: زيد المنطلق في حاجتك تريد الذي من شأنه أن يسعى في حاجتك عرض فيه معنى الجنسية حينئذ على حدها في أنت الحبيب. وهاهنا أصل يجب أن تحكمه وهو أن من شأن أسماء الأجناس كلها إذا وصفت أن تتنوع بالصفة فيصير الرجل الذي هو جنس واحد إذا وصفته فقلت: رجل ظريف ورجل قصير ورجل شاعر ورجل كاتب أنواعاً مختلفة يعد كل منها شيئاً على حدة. ويستأنف في اسم الرجل بكل صفة تقرنها إليه جنسية. وهكذا القول في المصادر تقول: العلم والجهل والضرب والقتل والسير والقيام والقعود. فتجد كل واحد من هذه المعاني جنساً كالرجل والفرس والحمار. فإذا وصفت فقلت: علم كذا وعلم كذا كقولك: علم ضروري وعلم مكتسب وعلم جلي وعلم خفي وضرب شديد وضرب خفيف وسير سريع وسير بطيء وما شاكل ذلك. انقسم الجنس منها أقساماً وصار أنواعاً وكان مثلها مثل الشيء المجموع المؤلف تفرقه فرقاً وتشعبه شعباً. وهذا مذهب معروف عندهم وأصل متعارف في كل جيل وأمة ثم إن هاهنا أصلاً هو كالمتفرع على هذا الأصل أو كالنظير له. وهو أن من شأن المصدر أن يفرق بالصلات كما يفرق بالصفات. ومعنى هذا الكلام أنك تقول: الضرب فتراه جنساً واحداً فإذا قلت: الضرب بالسيف صار تعديتك له إلى السيف نوعاً مخصوصاً. ألا تراك تقول: الضرب بالسيف غير الضرب بالعصا تريد أنهما نوعان مختلفان وأن اجتماعهما في اسم الضرب لا يوجب اتفاقهما لأن الصلة قد فصلت بينهما وفرقتهما. ومن المثال البين في ذلك قول المتنبي من الكامل: وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال هيجاء غير الطعن في الميدان لولا أن اختلاف صلة المصدر تقتضي اختلافه في نفسه وأن يحدث في انقسام وتنوع لما كان لهذا الكلام معنى ولكان في الاستحالة كقولك: والطعن غير الطعن. فقد بان إذاً أنه إنما كان كل واحد من الطعنين جنساً برأسه غير الآخر بأن كان هذا في الهيجاء وذاك في الميدان. وهكذا الحكم في كل شيء تعدى إليه المصدر وتعلق به. فاختلاف مفعولي المصدر يقتضي اختلافه. وأن يكون المتعدي إلى هذا المفعول غير المتعدي إلى ذاك. وعلى ذلك تقول: ليس إعطاؤك الكثير كإعطائك القليل. وهكذا إذا عديته إلى الحال كقولك: ليس إعطاؤك معسراً كإعطائك موسراً. وليس بذلك وأنت مقل كبذلك وأنت مكثر. وإذ قد عرفت هذا من حكم المصدر فاعتبر به حكم الاسم المشتق منه. وإذا اعتبرت ذلك علمت أن قولك: هو الوفي حين لا يفي أحد وهو الواهب المئة المصطفاة. وقوله من الخفيف: وهو الضارب االكتيبة والطع نة تغلو والضرب أغلى وأغلى وأشباه ذلك كلها أخبار فيها معنى الجنسية وأنها في نوعها الخاص بمنزلة الجنس المطلق إذا جعلته خبراً فقلت: أنت الشجاع. وكما أنك لا تقصد بقولك: أنت الشجاع إلى شجاعة بعينها قد كانت وعرفت من إنسان. وأردت أن تعرف ممن كانت بل تريد أن تقصر جنس الشجاعة عليه ولا تجعل لأحد غيره فيه حظاً. كذلك لا تقصد بقولك: أنت الوفي حين لا يفي أحد إلى وفاء واحد كيف وأنت تقول: حين لا يفي أحد. وهكذا محال أن يقصد من قوله: هو الواهب المئة المصطفاة إلى هبة واحدة لأنه يقتضي يقصد إلى مئة من الإبل قد وهبها مرة ثم لم يعد لمثلها. ومعلوم أنه خلاف الغرض المعنى أنه الذي من شأنه أن يهب المئة أبداً والذي يبلغ عطاؤه هذا المبلغ كما تقول: الذي يعطي مادحه الألف والألفين وكقوله من الرجز: وحاتم الطائي وهاب المئي وذلك أوضح من أن يخفى. وأصل آخر وهو أن من حقنا أن نعلم أن مذهب الجنسية في الاسم وهو خبر غير مذهبها وهو مبتدأ. تفسير هذا أنا وإن قلنا: إن اللام في قولك: أنت الشجاع للجنس كما هو له في قولهم: الشجاع موقى والجبان ملقى فإن الفرق بينهما عظيم. وذلك أن المعنى في قولك: الشجاع موقى أنك تثبث الوقاية لكل ذات صفتها الشجاعة فهو في معنى قولك: الشجعان كلهم موقون. ولست أقول: إن الشجاع كالشجعان على الإطلاق وإن كان ذلك ظن كثير من الناس ولكني أريد أنك تجعل الوقاية تستغرق الجنس وتشمله وتشيع فيه. وأما في قولك: أنت الشجاع فلا معنى فيه للاستغراق إذ لست تريد أن تقول: أنت الشجعان كلهم حتى كأنك تذهب به مذهب قولهم: أنت الخلق كلهم وأنت العالم. كما قال من السريع: ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد ولكن لحديث الجنسية هاهنا مأخذاً آخر غير ذلك وهو أنك تعمد بها إلى المصدر المشتق منه الصفة وتوجهها إليه لا إلى نفس الصفة. ثم لك في توجيهها إليه مسلك دقيق وذلك أنه ليس القصد أن تأتي إلى شجاعات كثيرة فتجمعها له وتوجدها فيه ولا أن تقول: إن الشجاعات التي يتوهم وجودها في الموصوفين بالشجاعة هي موجودة فيه لا فيهم. هذا كله محال بل المعنى على أنك تقول: كنا قد عقلنا الشجاعة وعرفنا حقيقتها وما هي وكيف ينبغي أن يكون الإنسان في إقدامه وبطشه حتى يعلم أنه شجاع على الكمال واستقرينا الناس فلم نجد في واحد منهم حقيقة ما عرفناه. حتى إذا صرنا إلى المخاطب وجدناه قد استكمل هذه الصفة واستجمع شرائطها وأخلص جوهرها ورسخ فيه سنخها. ويبين لك أن الأمر كذلك اتفاق الجميع على تفسيرهم له بمعنى الكامل ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات التي يتوهم كونها في الموصوفين بالشجاعة لما قالوا: إنه بمعنى الكامل في الشجاعة لأن الكمال هو أن تكون الصفة على ما ينبغي أن تكون عليه وأن لا يخالطها ما يقدح فيها. وليس الكمال أن تجتمع آحاد الجنس وينضم بعضها إلى بعض فالغرض إذاً بقولنا: أنت الشجاع هو الغرض بقولهم: هذه هي الشجاعة على الحقيقة وما عداها جبن. وهكذا يكون العلم وما عداه تخيل. وهذا هو الشعر وما سواه فليس بشيء وذلك أظهر من أن يخفى. وضرب آخر من الاستدلال في إبطال أن يكون: أنت الشجاع: بمعنى أنك كأنك جميع الشجعان على حد: أنت الخلق كلهم. وهو أنك في قولك: أنت الخلق وأنت الناس كلهم وقد جمع العالم منك في واحد تدعي له جميع المعاني الشريفة المتفرقة في الناس من غير أن تبطل تلك المعاني وتنفيها عن الناس بل على أن تدعي له أمثالها. ألا ترى أنك إذا قلت في الرجل: إنه معدود بألف رجل فلست تعني أنه معدود بألف رجل لا معنى فيهم ولا فضيلة لهم بوجه. بل تريد أنه يعطيك من معاني الشجاعة أو العلم أو كذا أو كذا مجموعاً ما لا تجد مقداره مفرقاً إلا في ألف رجل. وأما في نحو: أنت الشجاع فإنك تدعي له أنه قد انفرد بحقيقة الشجاعة وأنه قد أوتي فيها مزية وخاصية لم يؤتها أحد حتى صار الذي كان يعده الناس شجاعة غير شجاعة وحتى كأن كل إقدام إحجام وكل قوة عرفت في الحرب ضعف وعلى ذلك قالوا: جاد حتى بخل كل جواد وحتى منع أن يستحق اسم الجواد أحد: كما قال من الوافر: وإنك لا تجود على جواد هباتك ان يلقب بالجواد وكما يقال: جاد حتى كأن لم يعرف لأحد جود وحتى كان قد كذب الواصفون الغيث بالجود. كما قال من البسيط: أعطيت حتى تركت الريح حاسرة وجدت حتى كأن الغيث لم يجد اعلم أن لك في الذي علماً كثيراً وأسراراً جمة وخفايا إذا بحثت عنها وتصورتها طلعت على فوائد تؤنس النفس وتثلج الصدر بما يفضي بك إليه من اليقين ويؤديه إليك من حسن التبيين. والوجه في ذلك أن تتأمل عبارات لهم فيه: لم وضع ولأي غرض اجتلب وأشياء وصفوه بها. فمن ذلك قولهم: إن الذي اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل كما اجتلب ذو ليتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس يعنون بذلك أنك تقول: مررت بزيد الذي أبوه منطلق وبالرجل الذي كان عندنا أمس. فتجدك قد توصلت بالذي إلى أن يبين أبنت زيداً من غيره بالجملة التي هي قولك: أبوه منطلق. ولولا الذي لم تصل إلى ذلك كما أنك تقول: مررت برجل ذي مال: فيتوصل بذي إلى أن يبين الرجل من غيره بالمال. ولولا ذو لم يتأت لك ذلك إذ لا تستطيع أن تقول: برجل مال. فهذه جملة مفهومة إلا أن تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها. فمن ذلك أن تعلم من أين امتنع أن توصف المعرفة بالجملة ولم لم يكن حالها في ذلك حال النكرة التي تصفها بها في قولك: مررت برجل أبوه منطلق ورأيت إنساناً تقاد الجنائب بين يديه وقالوا: إن السبب في امتناع ذلك أن الجمل نكرات كلها بدلالة أنها تستفاد وإنما يستفاد المجهول دون المعلوم. قالوا: فلما كانت كذلك كانت وفقاً للنكرة. فجاز وصفها بها ولم يجز أن توصف بها المعرفة إذ لم تكن وفقاً. والقول المبين في ذلك أن يقال: إنه إنما اجتلب حتى إذا كان قد عرف رجل بقصة وأمر جرى له فتخصص بتلك القصة وبذلك الأمر عند السامع. ثم أريد القصد إليه ذكر الذي. تفسير هذا أنك لا تصل الذي إلا بجملة من الكلام قد سبق من السامع علم بها وأمر قد عرفه له نحو أن ترى عنده رجلاً ينشده شعراً فتقول له من غد: ما فعل الرجل الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر هذا حكم الجملة بعد الذي إذا أنت وصفت به شيئاً. فكان معنى قولهم: إنه اجتلب ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجملة أنه جيء به ليفصل بين أن يراد ذكر الشيء بجملة قد عرفها السامع له وبين أن لا يكون الأمر كذلك. فإن قلت: قد يؤتى بعد الذي بالجملة غير المعلومة للسامع وذلك حيث يكون الذي خبراً كقولك: هذا الذي كان عندك بالأمس وهذا الذي قدم رسولاً من الحضرة. أنت في هذ وشبهه تعلم المخاطب أمراً لم يسبق له به علم وتفيده في المشار إليه شيئاً لم يكن عنده ولو لم يكن كذلك لم يكن الذي خبراً إذ كان لا يكون الشيء خبراً حتى يفاد به. فالقول في ذلك: إن الجملة في هذا النحو وإن كان المخاطب لا يعلمها لعين من أشرت إليه فإنه لا بد من أن يكون قد علمها على الجملة وحدث بها. فإنك على كل حال لا تقول: هذ الذي قدم رسولاً: لمن لم يعلم أن رسولاً قدم ولم يبلغه ذلك في جملة ولا تفصيل. وكذ لا تقول: هذا الذي كان عندك أمس لمن قد نسي أنه كان عنده إنسان وذهب عن وهمه وإنما تقوله لمن ذاك على ذكر منه. إلا أنه رأى رجلاً يقبل من بعيد فلا يعلم أنه ذاك ويظنه إنساناً غيره. وعلى الجملة فكل عاقل يعلم بون ما بين الخبر بالجملة مع الذي وبينها مع غير الذي. فليس من أحد به طرق إلا وهو لا يشك أن ليس المعنى في قولك: هذا الذي قدم رسولاً من الحضرة كالمعنى إذا قلت: هذا قدم رسولاً من الحضرة ولا: هذا الذي يسكن في محلة كذا كقولك: هذا يسكن محلة كذا. وليس ذاك إلا أنك في قولك: هذا قدم رسولاً من الحضرة مبتدىء خبراً بأمر لم يبلغ السامع ولم يبلغه ولم يعلمه أصلاً. وفي قولك: هذا الذي قدم رسولاً معلم في أمر قد بلغه أن هذا صاحبه فلم يخل إذاً من الذي بدأ به في أمر الجملة مع الذي من أنه ينبغي أن تكون جملة قد سبق من السامع علم بها. فاعرفه فإنه من المسائل التي من جهلها جهل كثيراً من المعاني ودخل عليه الغلط في كثير من الأمور. والله الموفق للصواب.
|